فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

قال الزمخشري: وفيه دليل على أنه لو نقص من أجره أدنى شيء وأصغره، أو زاد في العقاب، لكان ظلمًا.
وأنه لا يفعله لاستحالته في الحكمة، لا لاستحالته في القدرة انتهى. وهي نزعة اعتزالية.
وثبت في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها» اهـ.

.قال الفخر:

قالت المعتزلة: إن عقاب قطرة من الخمر يزيل ثواب الإيمان والطاعة مدة مائة سنة.
وقال أصحابنا: هذا باطل؛ لأنا نعلم بالضرورة أن ثواب كل تلك الطاعات العظيمة تلك السنن المتطاولة، أزيد من عقاب شرب هذه القطرة، فاسقاط ذلك الثواب العظيم بعقاب هذا القدر من المعصية ظلم، وإنه منفي بهذه الآية. اهـ.
قال الفخر:
قال الجبائي: إن عقاب الكبيرة يحبط ثواب جملة الطاعات، ولا ينحبط من ذلك العقاب شيء.
وقال ابنه أبو هاشم: بل ينحبط.
واعلم أن هذا المشروع صار حجة قوية لأصحابنا في بطلان القول بالإحباط فإنا نقول: لو انحبط ذلك الثواب لكان إما أن يحبط مثله من العقاب أولا يحبط، والقسمان باطلان.
فالقول بالإحباط باطل.
إنما قلنا إنه لا يجوز انحباط كل واحد منهما بالآخر، لأنه إذا كان سبب عدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معا لحصل الوجدان معا، ضرورة أن العلة لابد وأن تكون حاصلة مع المعلول، وذلك محال.
وإنما قلنا: إنه لا يجوز انحباط الطاعة بالمعصية مع أن المعصية لا تنحبط بالطاعة، لأن تلك الطاعات لم ينتفع العبد بها ألبتة، لا في جلب ثواب، ولا في دفع عقاب وذلك ظلم، وهو ينافي قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ولما بطل القسمان ثبت القول بفساد الإحباط على ما تقوله المعتزلة. اهـ.
قال الفخر:
احتج أصحابنا بهذه الآية على أن المؤمنين يخرجون من النار إلى الجنة، فقالوا: لا شك أن ثواب الإيمان، والمداومة على التوحيد، والإقرار بأنه هو الموصول بصفات الجلال والإكرام، والمواظبة على وضع الجبين على تراب العبودية مائة سنة: أعظم ثوابا من عقاب شرب الجرعة من الخمر، فإذا حضر هذا الشارب يوم القيامة وأسقط عنه قدر عقاب هذا المعصية من ذلك الثواب العظيم فضل له من الثواب قدر عظيم، فإذا أدخل النار بسبب ذلك القدر من العقاب، فلو بقي هناك لكان ذلك ظلما وهو باطل، فوجب القطع بأنه يخرج إلى الجنة. اهـ.
قال الفخر:
قرأ نافع وابن كثير {حَسَنَةٌ} بالرفع على تقديره كان التامة، والمعنى: وإن حدثت حسنة، أو وقعت حسنة، والباقون بالنصب على تقدير كان الناقصة والتقدير: وإن تك زنة الذرة حسنة.
وقرأ ابن كثير وابن عامر {يضاعفها} بالتشديد من غير ألف من التضعيف، والباقون {يضاعفها} بالألف والتخفيف من المضاعفة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} أي يكثر ثوابها.
وقرأ أهل الحجاز {حَسَنَةٌ} بالرفع، والعامّة بالنصب؛ فعلى الأوّل تَكُ بمعنى تحدث، فهي تامة.
وعلى الثاني هي الناقصة، أي إن تَكُ فعلته حسنة.
وقرأ الحسن {نضاعفها} بنون العظمة.
والباقون بالياء، وهي أصح، لقوله: {ويؤتِ}.
وقرأ أبو رجاء {يُضَعِّفْهَا}، والباقون {يُضَاعِفْهَا} وهما لغتان معناهما التكثير.
وقال أبو عبيدة: {يُضَاعِفْهَا} معناه يجعله أضعافًا كثيرة {ويُضَعِّفْها} بالتشديد يجعلها ضعفين.
{مِن لَّدُنْهُ} من عنده.
وفيه أربع لغات: لَدُنْ ولُدْنُ ولَدُ ولَدَى؛ فإذا أضافوه إلى أنفسهم شدّدوا النون، ودخلت عليه مِنْ حيث كانت مِن الداخلة لابتداء الغاية ولَدُنْ كذلك فلما تشاكلا حسن دخول من عليها؛ ولذلك قال سيبويه في لدن: إنه الموضع الذي هو أوّل الغاية.
{أَجْرًا عَظِيمًا} يعني الجنة.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدْرِي الطويل حديث الشفاعة وفيه: «حتى إذا خَلَص المؤمنون من النار فَوَالذي نفسي بيده ما منكم من أحدٍ بأشد مناشدة للّهِ في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويُصلُون ويحجّون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتُحرّم صورُهم على النار فيخرجون خلقا كثيرًا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دِينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نَذَرْ فيها أحدًا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدًا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرّة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقًا كثيرًا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرًا».
وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} وذكر الحديث.
ورُوي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يؤتَى بالعبد يوم القيامة فيوقف وينادِي منادٍ على رؤوس الخلائق هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقول آتِ هؤلاء حقوقَهم فيقول يا رب من أين لي وقد ذهبت الدنيا عنِّي فيقول الله تعالى للملائكة انظروا إلى أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقالُ ذرّة من حسنة قالت الملائكة يا رب وهو أعلم بذلك منهم قد أعطى لكل ذي حق حقّه وبقي مثقال ذرّة من حسنة فيقول الله تعالى للملائكة ضعِّفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومِصداقه {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} وإن كان عبدًا شقيًا قالت الملائكة إلهنا فَنيت حسناته وبقيت سيئاته وبقي طالبون كثير فيقول تعالى: خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صُكُّوا له صكًا إلى النار» فالآية على هذا التأويل في الخصوم، وأنه تعالى لا يظلم مثقال ذرةٍ للخصم على الخصم يأخذ له منه، ولا يظلم مثقال ذرّة تبقى له بل يُثيبه عليها ويضعفها له؛ فذلك قوله تعالى: {وإنْ تَكُ حَسَنَةٌ يُضَاعِفْهَا}.
وروى أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة» وتلا {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}.
قال عبيدة قال أبو هريرة: وإذا قال الله: {أَجْرًا عَظِيمًا} فمن الذي يقدّر قدرها وقد تقدّم عن ابن عباس وابن مسعود: أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِن تَكُ حَسَنَةً} الضمير المستتر في الفعل الناقص عائد إلى المثقال، وإنما أنث حملًا على المعنى لأنه بمعنى وإن تكن زنة ذرة حسنة، وقيل: لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه نحو:
كما شرقت صدر القناة من الدم

أو صفة له نحو {لاَّ تَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] في قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية ومقدار الشيء صفة له كما أن الإيمان صفة للنفس، وقيل: أنث الضمير لتأنيث الخبر، واعترض بأن تأنيث الخبر إنما يكون لمطابقة تأنيث المبتدأ، فلو كان تأنيث المبتدأ له لزم الدور، وأجيب بأن ذلك إذا كان مقصودًا وصفيته، والحسنة غلبت عليها الإسمية فألحقت بالجوامد التي لا تراعى فيها المطابقة نحو الكلام هو الجملة وقيل: الضمير عائد إلى المضاف إليه وهو مؤنث بلا خفاء، وحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيهًا لها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون وكونها من حروف الزوائد، وكان القياس عود الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين بعد حذف النون إلا أنهم خالفوا القياس في ذلك أيضًا حرصًا على التخفيف فيما كثر دوره، وقد أجاز يونس حذف النون من هذا الفعل أيضًا في مثل قوله:
فإن لم تك المرآة أبدت وسامة ** فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم

وسيبويه يدعي أن ذلك ضرورة، وقرأ ابن كثير {حَسَنَةٌ} بالرفع على أن {تَكُ} تامة أي وإن توجد أو تقع {حَسَنَةٌ}.
{يضاعفها} أضعافًا كثيرة حتى يوصلها كما مر عن أبي هريرة إلى ألفي ألف حسنة، وعنى التكثير لا التحديد، والمراد يضاعف ثوابها لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مثلًا مما لا يعقل، وإن ذهب إليه بعض المحققين، وما في الحديث من أن تمرة الصدقة يربيها الرحمن حتى تصير مثل الجبل محمول على هذا للقطع بأنها أكلت، واحتمال إعادة المعدوم بعيد، وكذا كتابة ثوابها مضاعفًا، وهذه المضاعفة ليست هي المضاعفة في المدة عند الإمام لأنها غير متناهية، وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار، مثلًا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءًا أو ثلاثين أو أزيد، وقيل: هي المضاعفة بحسب المدة على معنى أنه سبحانه لا يقطع ثواب الحسنة في المدد الغير المتناهية لا أنه يضاعف جل شأنه مدتها ليجيء حديث محالية تضعيف ما لا نهاية اهـ.

.قال الفخر:

إن الله تعالى بين بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أنه لا يبخسهم حقهم أصلا، وبين بهذه الآية أن الله تعالى يزيدهم على استحقاقهم.
واعلم أن المراد من هذه المضاعفة ليس هو المضاعفة في المدة، لأن مدة الثواب غير متناهية، وتضعيف غير المتناهي محال، بل المراد أنه تعالى يضعفه بحسب المقدار: مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب، فيجعله عشرين جزءًا، أو ثلاثين جزءًا، أو أزيد.
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه، ثم يقال له: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضله ورحمته.
مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} وقال الحسن: قوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها} هذا أحب إلى العلماء مما لو قال: في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة، لأن ذلك الكلام يكون مقداره معلومًا أما هذه العبارة فلا يعلم كمية ذلك التضعيف إلاّ الله تعالى، وهو كقوله في ليلة القدر إنها خير من ألف شهر.
وقال أبو عثمان النهدي: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة، فقدر الله أن ذهبت إلى مكة حاجًا أو معتمرا فألفيته فقلت: بلغني عنك أنك تقول: إن الله يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة: لم أقل ذلك، ولكن قلت: إن الحسنة تضاعف بألفي ألف ضعف، ثم تلا هذه الآية وقال: إذا قال الله: {أَجْرًا عَظِيمًا} فمن يقدر قدره. اهـ.